هذه حكاية قديمة حدثت لا أدري ما المناسبة أن أرويها اليوم، لعلها بمناسبة ما يقابله البعض من ضنك يومي وتصرفات فردية ليس لها حل ولا شفاء ولا ينفع معها إطفاء ولا دواء، حيث الإجراءات والمعاملات في بعض المرافق أصبحت كمسائل الرياضيات التي لا تنتهي وتوصف بأنها مستحيلة الحل.
كنت في زيارة مع أبي وجدي الأستاذ عبدالله الجفري لصديقنا المشترك معالي الدكتور غازي القصيبي في مكتبه في لندن عندما كان سفيرا؛ استقبل أبا وجدي بعناق بنكهة الصدق والحنان والأصالة والذكريات كأنه غاب عنه دهرا..ً تحدثنا طويلاً لساعات.. اللحظات التي تُقضى مع (أبي يارا) تذكرك بأمتع اللحظات وأحلاها حتى تظن أن لا شيء في الدنيا مزعج وكل الأشياء جميلة وكل الناس رائعون..
دخل عليه من يعلمه بأن طالباً يرغب في مقابلته، أدخله على الفور، كان الطالب شاباً لم يكمل الثلاثين من العمر، كان قلقاً خائفاً يحاول إيصال معاناته، شعرت بأن ذلك الشاب وهو يقف مرتبكاً كأنه ريشة صغيرة ذرتها الريح فاستقرت في زاوية معتمة في مكان معتم لا يراها أحد ولا يشعر بها.. أطلق لأحزانه حرية التعبير، فصرخت دموعه، ولم يستطع التحكم فيها، كان حزينا، والحزن يغلق قلوبنا دون أي شيء، قال له يا معالي الدكتور أنا غريب، ليس لي ظهر ولا ظهير، قلق للغاية على مصيري وأسرتي وأطفالي، وهم في منتصف العام الدراسي، إنني كثير التفكير فيهم، وشرح مشكلته بالتفصيل، كان ينصت إليه القصيبي، كان يجيد فن الإصغاء؛ وهو أولى ضرورات فن الكلام، وفجأة انتصب وترك مقعده واتجه نحو الطالب ومسح على رأسه واحتضنه. تتعجب من قدرة ذلك الكيان على ممارسة الحنان.. وهو يقف هناك استطال في عيني رغم طوله الفارع، قال له بصوته الأجش لن تترك مكتبي حتى أُنهي أمرك بالكامل، وقام بالاتصال شخصياً بجامعة الطالب وتحدث مع أعلى المسؤولين، كنت أمارس مهارة التأمل التي أجيدها كثيراً، شعرت على ملامح الطالب وكأنه تعرف في هذا اليوم على أب جديد في غربته، في سعادة واضحة وسلام وراحة وأمان، قال للطالب كان الله في عونك، فالأمر فعلاً أكبر من أن تحتمله منفرداً، لا تقلق لقد انتهى الأمر ولله الحمد وقد كلفت المسؤول بالحجز لك في الفندق لتبيت الليلة وتعود غداً لعائلتك، أنت ضيفي هذا اليوم. ارتاحت عضلات الطالب المشدودة عند سماع هذه الكلمة كطفل غابت عنه أمه ثم ذكروها أمامه فشعر بالفرج القريب.. تأثر الشاب بموقف الدكتور القصيبي فبكى واتجه للباب مودعاً.. ببسمته الفاخرة كالعودة الفاخرة وكقطعة الألماس النادرة مازح الطالب قائلاً أتيتني حاضناً فلماذا تغادرني دون حضن، لا تكن بخيلاً، وانحنى على الطالب ذلك العملاق الذي لم ينحن لغير ربه ليعانق الطالب بحرارة..
ضحك أبو وجدي المشحون دائماً بالعواطف، قال له يا أبا يارا هذا اليوم هو يوم الأحضان، ابتسم الدكتور غازي وقال له يا أبا زين -وكان ينادي أبا وجدي يا أبا زين- ابنته البكر هكذا هو غازي القصيبي الذكر والأنثى عنده سواسية، بل قل هو يوم أداء الواجب هذا واجبي يا أبا زين ورزقي.. الأرزاق متنوعة، قالها ذلك البليغ فهناك من رزقه في ماله وذاك في صحته وثالث في أبنائه بررة به، ورابع أبواه مربيان صالحان والبيت الواسع رزق والزوجة الصالحة رزق والعلم رزق والذكاء رزق والحكمة رزق، أنا يا أبا زين رزقي في فعل الخير وخدمة الناس، يسرني الله لذلك كان كماء الورد الذي يختصر كل الحدائق، له عقل كبير يستخدمه استخداماً صحيحاً عز عليه أن يحيله للملحق الثقافي الذي كان جزءا من مشكلة الطالب، عز عليه أن يسرق حلم شاب.. كان ضياؤه يختزل الظلام، كان سكراً يحلي مرارة الأيام، رجل كان محسوداً من كل صوب، أصيب بالسرطان ولكنه كان معافى من سرطان الطوائف والعنصرية والقبلية والطائفية والمنطقية، سيرة ذاتية حافلة بالنشاط والعمل والجهد الصادق والحماس والإشراق والنفسية المرتاحة المتصالحة.
بعد الوداع، سألني أبو وجدي، ونحن نغادر مبنى السفارة وابتسامة ساخرة على وجه سؤالاً كأنه كان منحوتاً في رأسه: لماذا لا يتصرف بعض المسؤولين بهذا الرقي والجمال والفخامة والرشد والإنتاج والفكر والفرح بالعطاء والإنجاز ويستغلون طاقاتهم ومواهبهم لجعل حياة البشر ممكنة، وقبل أن أجيبه عاجلني بسؤال آخر: ألا يخجلون من الله أو من عبادة هؤلاء الذين يعطلون مصالح البشر المغموسة لقمتهم بشظف العيش وقسوة الحياة، وتوقف أبو وجدي عن الأسئلة وكأن في رأسه أسئلة واستفهامات كثيرة يبدو أنه مات ولم يجد إجابة عليها، ولا أعتقد أن لدي الجواب أيضاً، رحمك الله يا أبا وجدي ورحمك الله يا أبا يارا، لقد افتقدت كلاً منكما، فقد كان وجودكما في حياتي يجعلني دائماً أشعر بأن الدنيا بخير!!.
كنت في زيارة مع أبي وجدي الأستاذ عبدالله الجفري لصديقنا المشترك معالي الدكتور غازي القصيبي في مكتبه في لندن عندما كان سفيرا؛ استقبل أبا وجدي بعناق بنكهة الصدق والحنان والأصالة والذكريات كأنه غاب عنه دهرا..ً تحدثنا طويلاً لساعات.. اللحظات التي تُقضى مع (أبي يارا) تذكرك بأمتع اللحظات وأحلاها حتى تظن أن لا شيء في الدنيا مزعج وكل الأشياء جميلة وكل الناس رائعون..
دخل عليه من يعلمه بأن طالباً يرغب في مقابلته، أدخله على الفور، كان الطالب شاباً لم يكمل الثلاثين من العمر، كان قلقاً خائفاً يحاول إيصال معاناته، شعرت بأن ذلك الشاب وهو يقف مرتبكاً كأنه ريشة صغيرة ذرتها الريح فاستقرت في زاوية معتمة في مكان معتم لا يراها أحد ولا يشعر بها.. أطلق لأحزانه حرية التعبير، فصرخت دموعه، ولم يستطع التحكم فيها، كان حزينا، والحزن يغلق قلوبنا دون أي شيء، قال له يا معالي الدكتور أنا غريب، ليس لي ظهر ولا ظهير، قلق للغاية على مصيري وأسرتي وأطفالي، وهم في منتصف العام الدراسي، إنني كثير التفكير فيهم، وشرح مشكلته بالتفصيل، كان ينصت إليه القصيبي، كان يجيد فن الإصغاء؛ وهو أولى ضرورات فن الكلام، وفجأة انتصب وترك مقعده واتجه نحو الطالب ومسح على رأسه واحتضنه. تتعجب من قدرة ذلك الكيان على ممارسة الحنان.. وهو يقف هناك استطال في عيني رغم طوله الفارع، قال له بصوته الأجش لن تترك مكتبي حتى أُنهي أمرك بالكامل، وقام بالاتصال شخصياً بجامعة الطالب وتحدث مع أعلى المسؤولين، كنت أمارس مهارة التأمل التي أجيدها كثيراً، شعرت على ملامح الطالب وكأنه تعرف في هذا اليوم على أب جديد في غربته، في سعادة واضحة وسلام وراحة وأمان، قال للطالب كان الله في عونك، فالأمر فعلاً أكبر من أن تحتمله منفرداً، لا تقلق لقد انتهى الأمر ولله الحمد وقد كلفت المسؤول بالحجز لك في الفندق لتبيت الليلة وتعود غداً لعائلتك، أنت ضيفي هذا اليوم. ارتاحت عضلات الطالب المشدودة عند سماع هذه الكلمة كطفل غابت عنه أمه ثم ذكروها أمامه فشعر بالفرج القريب.. تأثر الشاب بموقف الدكتور القصيبي فبكى واتجه للباب مودعاً.. ببسمته الفاخرة كالعودة الفاخرة وكقطعة الألماس النادرة مازح الطالب قائلاً أتيتني حاضناً فلماذا تغادرني دون حضن، لا تكن بخيلاً، وانحنى على الطالب ذلك العملاق الذي لم ينحن لغير ربه ليعانق الطالب بحرارة..
ضحك أبو وجدي المشحون دائماً بالعواطف، قال له يا أبا يارا هذا اليوم هو يوم الأحضان، ابتسم الدكتور غازي وقال له يا أبا زين -وكان ينادي أبا وجدي يا أبا زين- ابنته البكر هكذا هو غازي القصيبي الذكر والأنثى عنده سواسية، بل قل هو يوم أداء الواجب هذا واجبي يا أبا زين ورزقي.. الأرزاق متنوعة، قالها ذلك البليغ فهناك من رزقه في ماله وذاك في صحته وثالث في أبنائه بررة به، ورابع أبواه مربيان صالحان والبيت الواسع رزق والزوجة الصالحة رزق والعلم رزق والذكاء رزق والحكمة رزق، أنا يا أبا زين رزقي في فعل الخير وخدمة الناس، يسرني الله لذلك كان كماء الورد الذي يختصر كل الحدائق، له عقل كبير يستخدمه استخداماً صحيحاً عز عليه أن يحيله للملحق الثقافي الذي كان جزءا من مشكلة الطالب، عز عليه أن يسرق حلم شاب.. كان ضياؤه يختزل الظلام، كان سكراً يحلي مرارة الأيام، رجل كان محسوداً من كل صوب، أصيب بالسرطان ولكنه كان معافى من سرطان الطوائف والعنصرية والقبلية والطائفية والمنطقية، سيرة ذاتية حافلة بالنشاط والعمل والجهد الصادق والحماس والإشراق والنفسية المرتاحة المتصالحة.
بعد الوداع، سألني أبو وجدي، ونحن نغادر مبنى السفارة وابتسامة ساخرة على وجه سؤالاً كأنه كان منحوتاً في رأسه: لماذا لا يتصرف بعض المسؤولين بهذا الرقي والجمال والفخامة والرشد والإنتاج والفكر والفرح بالعطاء والإنجاز ويستغلون طاقاتهم ومواهبهم لجعل حياة البشر ممكنة، وقبل أن أجيبه عاجلني بسؤال آخر: ألا يخجلون من الله أو من عبادة هؤلاء الذين يعطلون مصالح البشر المغموسة لقمتهم بشظف العيش وقسوة الحياة، وتوقف أبو وجدي عن الأسئلة وكأن في رأسه أسئلة واستفهامات كثيرة يبدو أنه مات ولم يجد إجابة عليها، ولا أعتقد أن لدي الجواب أيضاً، رحمك الله يا أبا وجدي ورحمك الله يا أبا يارا، لقد افتقدت كلاً منكما، فقد كان وجودكما في حياتي يجعلني دائماً أشعر بأن الدنيا بخير!!.